تحدثت في مقال سابق عن شخصية القارىء كأحد شخصيات الرواية في الكتاب المقدس. وقد ركزت في ذلك المقال على شخصية القارىء حيال شخصية عيسى بن مريم الذي يسمى يسوع في الأناجيل. وأود ان اتناول في هذا المقال شخصية القارىء حيال شخصية محمد في القرآن.
فأول ما يصادف القارىء في قراءته للقرآن هو تميز شخصية الراوي في القرآن عن شخصية الراوي في الكتاب المقدس. وهو ما يؤثر نوعيا وبشكل ملحوظ للعيان على شخصية القارىء في القرآن ويقلص من قدرته على استعمال امكاناته العقلية والفكرية في تعامله مع الراوي ومع القرآن. فالراوي في القرآن يتميز بخصلتين أساسيين متميزتين عن باقي رواة العهد الجديد والعهد القديم. فهو من جهة يحجب عن القارىء المعلومات الأساسية التي عادة ما يقدمها الرواة لجعل القارىء يتفاعل مع شخصيات الرواية انطلاقا من تلك المعلومات الذي يمده بها الراوي. وهو من جهة أخرى يعوض ذلك النقص في المعلومات بمد القارىء بسيل من الأحكام القيمية القرآنية التي تضع القارىء في مأزق الاختيار ما بين أن يكون بين أهل الجنة او بين أهل النار، بين أصحاب اليمين أو بين أصحاب الشمال، بين الفئة المفلحة أو بين الفئة الخاسرة، بين الكفار او بين المؤمنين، بين الفجار او بين المتقين، بين المسلمين او بين المجرمين، بين من يؤمن بالله وبين من يؤمن بالطاغوت، وبين من يتبع كلام الله وبين من يتبع اهواءه، وبين من يعلمون وبين من لا يعلمون، وبين من يفقهون وبين من لا يفقهون.
والخلاصة هي أن القارىء يجد نفسه تحث ضعوط نفسية يفرضها عليه الراوي في القرآن وهي ضغوط نفسية تجعل القارىء يستسلم استسلاميا خنوعيا لارادة الراوي. وبفعل هذه الضغوط النفسية التي تتكرر في كل سورة وفي كل آية يجد القارىء نفسه في وضعية نفسية تجعله يتخلى عن استعمال قدراته الفكرية والعقلية في التفاعل مع القرآن لصالح حاجياته النفسية والاجتماعية الهادفة إلى اختيار الانتماء إلى الذين يتبعون من القول أحسنه، اي الذين يتبعون قول الله عوض اهواءهم، ويتبعون فئة المسلمين بدل فئة المجرمين، وفئة حزب الله بذل فئة حزب الشيطان، وفئة الذين يعلمون بدل فئة الذين لا يعلمون، وفئة الذين يفقهون بدل فئة الذين لا يفقهون.
وبناء على ما ذكر، تصبح قراءة قارىء القرآن قراءة خاضعة لمنطق التحيز السيكولوجي وليست خاضعة لمنطق التحيز للعلم ولمنطق العقل والعقلانية. فخضوع القارىء للضغوط النفسية التي تفرضها عليه شخصية الراوي بشكل متكرر وممنهج تجعل ذاك القارىء يتقبل كل ما يقال له ولا يجادل فيه لانه يعلم أن مجادلته للراوي تعني أنه أصبح من المجرمين بدل المسلمين، وانه أصبح من الذين لا يعلمون بدل الذين يعلمون، وأنه أصبح بين الذين لا يفقهون بدل الذين يفقهون. وحين يصبح قارىء القرآن في هذه الوضعية الذهنية والسيكولوجية تصبح قراءته للقرآن قراءة محكومة بسيكولوجية الخضوع والخنوع متعارضة في ذلك بشكل جوهري ومنهجي مع القراءة العقلية والمنطقية والعقلانية.
وهنا، يجد قارىء القرآن نفسه في وضعية لا تمكنه من مساءلة شخصية الراوي عن المعلومات التي حجبها عنه عوض ان يقدمها له كما جرت عليه العادة عند الرواة في قصص وروايات الكتاب المقدس. فهؤلاء الرواة يقدمون للقارئء معلومات ولو محدودة عن شخصيات الروايات كما أنهم يضعون القارىء في الإطار الجغرافي والزمني للقصة /الرواية ولسيرورة الأحداث في الرواية. بينما لا يجد القارىء في القرآن تلك المعطيات ولا يجد اطارا تاريخيا يقدم له شخصية محمد من حيث مكان ولادته، ومكان مماته ودفنه. فالقارىء في قصص العهد القديم يجد، على سبيل المثال، معلومات عن مكان ميلاد النبي يعقوب، وعن تنقلاته، وعن اباءه واعمامه واخواله، وعن أبناءه، وعن زوجاته، وعن خصومه، وعن مماته، وعن مكان دفنه، وعن مكان دفن زوجاته، الخ.

ولكن القارىء في القرآن لا يجد مثل تلك المعلومات عن محمد رسول الإسلام. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن صياغة القرآن لذهنية وسيكولوجية القارىء تجعل هذا الأخير لا يعير اهتماما عقليا ومنطقيا وعقلانيا لغياب تلك المعلومات بل إنه لا ينتبه إلى غيابها او تغييبها في النص القرآني وكأن الأمر عادي جدا وبديهي ولا يحتاج الى التوضيح. فالاسبقية عند قارىء القرآن لا تكمن في الفهم بقدر ما تكمن في الفوز برضى شخصية الراوي التي تصنف جمهورها وتقسمهم الى ظالمين ومتقين والى مسلمين ومجرمين. ولهذا لا تجد قارىء القرآن يتساءل إجمالا عن شبه غياب إسم محمد في القرآن. فاسم هذا الاخير لم يذكر إلا أربع مرات في القرآن مقابل حوالى ماءة وثلاثين مرة ذكر فيها اسم موسى في القران. فقارىء القرآن لا يطرح مثل هذه الأسئلة ولا ينتبه إلى مثل هذه الملاحظات لان الاوليات عنده لا تكمن في الفهم بقدر ما تكمن في الفوز بالجنة بدل الحكم عليه بالخلود في جهنم
ولهذا تجد القارىء يعوض غياب او شبه غياب إسم محمد في القرآن بوضع إسم محمد في كل آية حذف فيها إسم النبي الأصلي. فحين يقول القرآن، مثلا، « سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى » تجد القارىء يضع اسم محمد مكان إسم النبي الذي حجبه الراوي في الآية الاولى من سورة الإسراء. وبما ان قراءة قارىء القرآن تمارس بذهنية سيكولوجية وليست بذهنية عقلانية فإنك ستجد هذا القارىء لا يعير اهتماما منطقيا للمعلومات التاريخية التي تقول أن المسجد الأقصى لم يكن موجودا في التاريخ الذي يضع فيه مفسرو القرآن العباسيون حقبة حياة محمد رسول الإسلام.
اكتفي هنا بهذا القدر. وأرجو أن تتركوا تعليقاتكم وانطباعاتكم وتساؤلاتكم للرجوع إليها في مقال آخر وفي مقام آخر.